Friday, January 11, 2013

الإمتحان وحده لا يكفي




الإمتحان وحده لا يكفي
لتنمية التفكير النقدي لدى الطالب

       إذا كانت مهنة التدريس في حد ذاتها بصفة عامة عملاً شاقاً يحتاج إلى كبير جهد وعناء وعمل متواصل ويقظة دائمة وتجديد مستمر فإن عملية التعامل مع العقل البشري أمر أكثر صعوبة، خاصة إذا ما وصل مرحلة من النضج تؤهله لفهم الواقع من حوله وإدراكه .ولكن حين ينقلب الفهم إلى عدم فهم، تكون المشكلة .. مشكلة الحشو الذهني دون نقد أو تفكير .. والواقع أن مفهوم المدرسة الحديثة اليوم لا يعدو كونه مؤسسة تعليمية فحسب، بل أن المدرسة هي مؤسسة تربوية تعليمية لها وظائفها الهامة في المجتمع تتأثر به وتؤثر فيه، وتعد أفراده للحياة بالإعداد المعرفي والفكري ليحقق نموه المتكامل مع شخصيته .. إلا أن هذا الدور قد يفهم بالطريقة الخطأ من ذوي العقول الضيقة . والمنظور الحقيقي؛ أن دور المدرسة لا يتمثل في حشو ذهن الطالب بالمادة العلمية وتقديم المنهج على ما هو عليه دون نقد أو تعليق ، وإنما مساعدته لتنمية واستثمار تفوقه ومواهبه وقدراته المتميزة بالبحث والتنقيب والسعي وراء المعلومة الهادفة حتى يكون عقلاً فعالاً في خدمة المجتمع وبنائه وتنميته . لذا كان من الضروري التنبيه إلى أهمية أن يكون للطالب عقلية واعية متفهمة منظمة، لينمي أفكاره واتجاهاته العلمية. ليس ذلك عن طريق المنهج المدرسي فحسب، بل بكل ما يتوفر لديه من وسائل معرفية مرئية أو مسموعة أو مقروءة أو عن طريق إقباله على الأنشطة المختلفة التي تعد الرافد الهام الذي يشجع على الابتكار والإبداع.
      لقد خطت المناهج المدرسية الحالية اتجاهاً معرفياً يعتمد على أساليب التفكير وتنمية المهارات والاتجاهات والقيم المترابطة وضعت وفق أهداف عامة وخاصة منظمة تنظيماً منطقاً يساعد على تعلمها بكل يسر وسهولة وفي متناول جميع فئات الطلاب من المتميزين والعاديين وضعاف المستوى . ولقد جعل الامتحان وسيلة لقياس وتحديد مستوى الطالب فيما تعلمه ، يكون الغرض منه أيضاً الوصول إلى الطالب المتميز الذي اشتملت صفاته على مزايا وقدرات وإمكانات لم تتوفر لغيره ، وبزّ أقرانه في مجالات تعتبر المحك الأكبر الذي يوضع عليه عقله وأحلامه ، وهنا يتصفى المعدن النقي الخالص من الآخر الغث الدنيء . وقد قال تعالى : " ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " الأنعام 132.ولكن بعض الممارسات الخاطئة والتي يقبل على اتباعها بعض المعلمين كان لها يداً في خلق مشكلة تسمى بمشكلة " التجميد الذهني" لدى الطلاب، ولنبدأ بطالب المرحلة الابتدائية الذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى وهو لا يكاد يقرأ لفظ " بسم الله الرحمن الرحيم " ففي دراسته تعلم أن يحفظ السورة والقصيدة والموضوع القرائي حتى المسألة الحسابية ، ثم نأتي إلى الحصة الدراسية حيث نجد المعلم يبادر بحل أسئلة الدرس دون أن يترك للطالب فرصة أن يعمل ذهنه فيحلها على لوح السبورة ثم يقول للطالب سجل الإجابة في دفترك ، وإذا ما ترك له سؤالاً إنما يختار له من رديئها التي لا تحتاج إلى كبير جهد وعناء أو إعمال فكر أو نظرة ثاقبة ، وإذا ما أتينا على الامتحان الذي من شأنه تحديد مستوى الطالب يكون المعلم قد أعطى طلابه جميع الأسئلة في مراجعة ما قبل الامتحان أو يحدد له صفحات معينة من الكتاب أو أسئلة بذاتها ثم يقول لطلابه ذاكروا من صفحة كذا إلى صفحة كذا ، فيأتي بسؤال منقول بالنص وبالحرف الواحد إما من قائمة أسئلة الدرس أو الوحدة أو يقدم اختباراً تداوله الطلاب لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات دون أن يجشم نفسه عناء وضع اختبار يتناسب مع طلابه الحاليين . وهذا هو الشأن " احفظ الكتاب من الجلدة إلى الجلدة .. لا تفكر .. لا تعي .. لا تدرك .. فقط فرغ ما لديك في ورقة الإجابة " .. والسؤال المطروح الآن كيف نريد من الطالب أن يتعلم وفي الوقت ذاته نحن المعلمون من يجعل منه ببغاء يردد ما يسمعه ؟ .. كيف يفكر الطالب وهو يجد طبقاً يفيض بأشهى الدرجات دون تعب أو عناء ؟؟.. قد تختلف الأساليب المستخدمة من معلم لآخر ولكن لا نريد أن يرتطم معلم ما في يوم ما بصخرة الواقع حين يجد أن حساباته لابد أن يعاد النظر فيها حين يتصارخ الطلاب من حوله " أسلوبك خطأ .. ليس المهم أن نتعلم ولكن الأهم أن نحصل على ما نريد من الدرجات " هذا هو المنطق الحالي وهذا ما يعاني منه الكثير من المعلمين والمعلمات . فيا ترى ماذا يكون شعور المعلم عندما يأتيه طالب كان بالأمس في عداد الممتازين واليوم فيمن تولاهم الله برحمته من الراسبين ، أم ماذا سيكون شعوره عندما يأتيه ولي أمر طالب كأنه علم في رأسه نار " لماذا رسبت ابني .. ابني في حياته ما رسب " .
      وعندما نتطلع إلى الواقع المعاصر نجد عالم الأذهان المتفتحة .. عالم الاختراعات والتنافس العلمي إذ نعيش عصر التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل في شتى ميادين الحياة ، وقد تبارت الدول في رعاية الأفراد والجماعات ، منهم ذوي الإمكانات الرفيعة ووضعت الخطط والبرامج لرعايتهم بناء على القدرة العقلية العامة والتفكير الابتكاري أو الانتاجي أو الاستعداد الأكاديمي الخاص والتميز اللغوي والأدبي والفني . ولذا فإن النظرة العامة لا تقتصر على المواد الدراسية التي يمتحن فيها الطالب فحسب بل ينبغي أن يتعدى هذا المفهوم الضيق إلى مفاهيم أشمل وأوسع ، هدفها استنهاض الهمم وتفجير الطاقات الكامنة واستكشاف القدرات الخامدة وتنشيطها لا مساعدتها على الركون والدعة والجمود . وما نجده الآن من أساليب خاطئة متبعة إنما هو دليل على تجميد العقول وتنويمها .. ولو تأملنا في كلمة "اقرأ " التي كانت نواة هذه الأمة ومنبع الحضارة الإسلامية لوجدنا لها من معينها الذي لا ينضب مدلوليه قانونية وعلمية وأدبية وسياسية واجتماعية لا يدركها إلا من وعي وحرر عقله وسبح في أرجاء هذه الكلمة ،الصغيرة الحجم الكبيرة المعنى .ولكم دعانا القرآن الكريم صراحة إلى إعمال الفكر للتدبر والتأمل في الكون وما حولنا . ولعلنا من هذا نلمس أهمية تنمية التفكير النقدي والعلمي الابتكاري لدى الناشئة وتدريبهم على استخلاص المعارف والقضايا بأنفسهم .    ومهما كانت إمكانيات مدارسنا محدودة إلا أن المدرسة هي النواة لتلك الهالة العظيمة التي يتكون منها جسم التقدم والبذرة الأولى لابتكارات خطت بركب التقدم خطوات واسعة وسريعة للحضارات.
       إن عدم استغلال الفكر والمهارة والخبرة يؤدي إلى جمود النمو وتراجع الازدهار ومستوى التطور . وهذا من شأنه أن يعيق كل المشاريع التنموية لأن الثروة الفكرية هي الأغلى والعقول والمهارات والخبرة هي رأس المال الحقيقي وهي العنصر الأهم، وبدونها تبقى كل المخططات التنموية حبراً على ورق ..
      إننا بحاجة إلى كفاءات علمية ومهنية لا تعاني الشلل والجمود الذهني بل إلى عقول تصنع المستحيل .. تنظر إلى الأشياء نظرة متكاملة تتسم بالعمق والبعد والقدرة على قراءة المستقبل بنظرة واسعة وخبرة عريضة .والمدرسة هي المؤسسة الأولى التي تعني بالفرد تنمية وإعدادا ، فيا أيها المعلم إننا لسنا بحاجة إلى ورقة إمتحانية يفرغ الطالب كل ما لديه من معلومات مخزنة ليحصل في النهاية على الدرجة كاملة دون أن يعلم من العلم شيئاً ، فليس كل من أخذ العلامة النهائية في الامتحان أصبح عالماً .
 




No comments: